وصل منصف المرزوقي إلى الجزائر وهو يحمل أحلاما كثيرة وكبيرة، وعزيمة قوية، ومشاريع طموحة، وكان يفكر في آفاق واسعة، ويبحث عن مفاتيح لتحقيق أهداف عجز عنها السابقون. وغادر المرزوقي الجزائر بعد زيارة دامت يومين لم تمس بعزيمته، ولم تؤثر على قناعاته، ولم تزعزع أفكاره، رغم الحاجز الذي يفرق نظرته للسياسة مع نظرة المسؤولين الجزائريين والمغاربة بصفة عامة.
وترك المرزوقي انطباعا غريبا بين من يمجدون مواقفه ونضاله، ومن يعتبر أنه يحمل أوهاما أكبر منه. واعترف الكل بنضال الرجل الطويل وقناعاته القوية وعزمه في الدفاع عن الديمقراطية والحرية وحقوق الإنسان إلى جانب طوحه في بناء المغرب العربي. وقد عانى السجن والمنفى في سبيل ذلك، ولم يتغير سلوكه ولم تتأثر قناعاته رغم المحنة. وقد أدت به تجربته إلى طرح فكرة لبناء المغرب العربي حول خمس حرية تتمثل في حرية كل مواطن مغاربي في السفر والإقامة والاستثمار والعمل والمشاركة في الانتخابات المحلية في كل بلدان الغرب العربي.
ولا شك أن مسلك المرزوقي كان لوحده كافيا ليصنع تلك القناعات. وكان أبوه منفيا في المغرب حيث تزوج وبقي أفراد من عائلته يحملون الجنسية المغربية. ومنصف المرزوقي نفسه درس مطولا في المغرب. ثم عاش القهر والحرمان والمنفى، مما جعله يدافع عن الحريات في كل الظروف، ولم يتردد في الدفاع عن الإسلاميين لما كان نظام زين العابدين بن علي يقهرهم. ولما كان معارضا في المنفى في فرنسا، كان ينعم بالحرية التي يوفرها الغرب، ويلاحظ كيف أن ذلك الغرب كان يتعاطف مع أنظمة مستبدة بحجة أنها تشكل حصنا ضد التطرف.
وبعد وصوله السلطة، لم ينس المرزوقي هذه الرموز. وأثناء زيارته إلى المغرب، قال إنه يفضل أن يقضي ليلته عند أخته التي تسكن مراكش بدلا من الإقامات الرسمية. وفي الجزائر، ترحم على روح الرئيس السابق لرابطة حقوق الإنسان يوسف فتح الله، كما التقى أهل الثقافة والقانون، في خطوات قليلا ما تبادر بها السلطات الجزائرية.
وأثار هذا السلوك تحير بعض المسؤولين الجزائريين وانزعاج الآخرين. وبطريقة ملتوية، أعربت أطراف في السلطة الجزائرية عن هذا السخط حيث سربت معلومات مفادها أن المرزوقي قد يحمل أجندة سياسية تتطابق مع خارطة الطريق التي تريد أن تفرضها البلدان الغربية على المنطقة. وذكرت نفس الأوساط أن المرزوقي ليس إلا رئيسا لمرحلة انتقالية، وأنه لم يصل إلى المنصب إلا تلبية لرغبة حزب "النهضة" الذي تخلى عن هذا المنصب حتى يطمئن المجتمع التونسي والعالم.
وأضافوا أن المرزوقي يحكم بلدا يعيش مرحلة انتقالية صعبة، مع أزمة اقتصادية خانقة، وأن لا شيء أصبح مضمونا في هذا البلد الذي يعاني من عدم الاستقرار في ليبيا إلى جانب الغليان الداخلي. وأكثر من ذلك، فإن مواقف المرزوقي أعطت مصداقية للإسلاميين في تونس، لكن لا شيء يضمن أن هؤلاء لن يعيدوا الكرة بعد سنة أو سنتين لما تستقر السلطة بين أيديهم.
وفي مساعيه لبناء المغرب العربي، ظهر المرزوقي وكأنه لا يبالي بالواقع، فأبدى إرادة في التحرك وكأنه قادر لوحده أن يحرك جمود المنطقة. وأزعج هذا الموقف القادة الجزائريين الذين يعتبرون أنفسهم أكثر حنكة وأكثر تحكما في السياسة والدبلوماسية، خاصة أن مساعي المرزوقي تتناقض تماما مع جمودهم التام.
ويبقى المرزوقي محل مراقبة من طرف القادة الجزائريين، وهم ينتظرون كيف سيتصرف بعد المصادقة على الدستور الجديد: هل سيعطيه الإسلاميون نصيبا مقبولا، أم أنهم سيفضلون الاستيلاء على كل دواليب السلطة ويستغنون عنه بعد أن ساهم في فتح الطريق لفرض النظام الذي يريدون؟ وبصورة يسيطة، ينتظر الجزائريون إلى أي شاطئ سيصل المرزوقي. ولإن استطاع أن يتقدم في ملف المغرب العربي، فذاك له، ويمكن للقادة الجزائريين أن يقولوا إنهم ساعدوه حيث قدموا له مساعدات مالية سمحت له بالحفاظ على السلم الاجتماعي. وإذا فشل، فسيقولون إنه سياسي غير محترف، جاءته فرصة ليدفع بلاده إلى الأمام فضيعها، وضاعت معه الأحلام التي كان يحملها فتحولت إلى أوهام.
عابد شارف / الشروق
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق