كتب الصحفي الجزائري سعد بوعقبة في صحيفة " الفجر" الجزائرية يقول عن رحيل السياسي المحنك الجزائري عبد الحميد مهري.. كتب يقول:
منذ وفاة المرحوم بومدين لم أجد نفسي في حرج الكتابة عن راحل من عظماء الجزائر كحرجي أن أكتب وأرثي الراحل سي عبد الحميد مهري.. ذلك لأن الرجل هو بالفعل أكبر من الكلمات.. هو بالفعل خلاصة مستخلصة للجزائري الخالص.. الجزائري الذي ليس له مشاكل مع بلده ومع شعبه ومع حزبه ومع انتمائه القومي والوطني والعالمي.
الآن يمكن أن نقول: إن الجزائر فقدت أهم بوصلة سياسية وثقافية ونضالية لها.. فهو بالفعل آخر العمالقة يرحل عنا دون استئذان في وقت البلاد في حاجة إليه.. في حاجة إلى رأيه.. في حاجة إلى قراءته الصحيحة للأحداث.
أخشى ما أخشاه أن يكون الراحل عبد الحميد قد مات من اليأس والقنوط.. وهو الذي يعيش بحساسية مرهفة لما يحدث في الوطن الجزائري وفي الوطن العربي.
كنت دائما عندما تسود الدنيا في وجهي أتجه إليه ليشير علي.. فلمن أتجه الآن وقد رحل؟! وصدق من قال.. بعد القرآن والحديث يأتي كلام عبد الحميد مهري في السياسة!
لم أحس بأن الأفالان هي الأفالان التي قادت البلاد إلى الحرية إلا في عهده عندما عارض بقوة الرجل المؤمن بالجزائر شطط الاحتكام إلى السلاح بين الفرقاء في السلطة وفي المعارضة الإسلامية.. وبعد قتل 200 ألف جزائري وحرق 25 مليار دولار وتهشيم البلد سمعة وسياسة واقتصادا وثقافة خلال عشرية كاملة عادوا إلى ما كان يعرضه مهري على الفرقاء فكانت المصالحة.. ولكن فوق أكوام من الجثث والآلام والأحزان!
أذكر له موقفا عشية إطلاق السلطة لفئرانها لتلعب في عب الجبهة لإزاحته.. اختليت به لدقائق في مكتبه بمقر الحزب.. فقال لي لا تكتب في هذا الأمر فقد اتخذت قراري.. فهم لا يريدونني بل يريدون الجبهة.. فهي لهم إذن.. ولم آخذ برأيه وكتبت وتحملت مسؤوليتي وكان الذي كان من سجني لمدة 24 ساعة بسبب ما كتبت.. وعندما خرجت من السجن.. ذهبت إليه في بيته وقد غادر الجبهة فوجدت معه السيد عبد العزيز بوتفليقة.. وكان الحديث بينهما يدور حول الإحباط الذي أصاب الجبهة بعد رحيله.. وكيف أن أمل المصالحة والذهاب إلى حل سياسي يحقن الدماء قد أصبح بعيدا.
وطوال العشرية الحمراء كنت دائما أسأله: إن كان هناك بصيص أمل في الأفق.. فكان يقول لي بعباراته المؤثرة والدالة: “نحن ما نزال في النفق وعندما يظهر النور أقول لك”!
لم أره حزينا في حياته قدر حزنه يوم أن خسرت الجبهة الانتخابات في 1991.. فقال لي: ما أقسى على الإنسان أن يموت من يحبه على يديه؟!
أذكر أنه استدعاني ذات يوم ليقول لي: صحح معلوماتك عن السيد آيت أحمد.. فلا تشتم التاريخ.. إذا أردت أن تكون صحفيا مرموقا ولك رأي يحترم. ومنذ ذلك التاريخ عطفت على قراءة كل ما يقع في يدي عن آيت أحمد من كتابات. وأنا مدين له بتصحيح أخطائي في هذا المجال.
سألته ذات يوم عن مصطلح السلطة الفعلية الذي أطلقه بعد وقف المسار الانتخابي: فخلع نظاراته وحك عينيه ثم قال لي رحمه اللّه: تريد أن تعرف معنى السلطة الفعلية؟ فقلت له نعم. فقال لي هل عندك رخصة سياقة السيارة فقلت نعم. فقال لي هب أنك تسير في طريق وانتهى بك السير إلى مفترق الطرق بين أربع طرق كل واحدة تحمل علامة الأولوية لليمين وجاءت معك ثلاث سيارات في نفس الوقت والأربع سيارات كل واحدة تريد المرور.. وتشابكت الأربع في قلب مفترق الطرق ورفض كل واحد أن يتنازل عن حقه في المرور.. فتكون زحام سيارات.. فقام أحدهم بلعب دور البوليس وقام بإيقاف أحدهم وتمرير الآخرين لفك الاشتباك.. هذا المواطن الذي لعب دور البوليس في هذه العملية هو سلطة فعلية بوليسية لكنه ليس شرعيا وبمجرد أن تعود عملية المرور إلى حالتها يعود هو إلى سابق عهده ولا ينصب نفسه سلطة شرعية لأنه قام بدور البوليس لفترة محددة! هكذا حال الحياة السياسية في البلاد بعد 1991 هناك سلطة فعلية تنظم عملية المرور السياسي وتعود إلى حالها السابق ولا تنصب نفسها سلطة شرعية.
عندما كان على رأس الجبهة أقنع الرئيس الشاذلي بضرورة عودة القدماء إلى صفوف الجبهة.. وعشية الندوة الوطنية لعودة القدماء سألته في أروقة قصر الأمم كيف ستتصرف مع هؤلاء الفطاحل في السياسة وهم يعودون إلى الجبهة؟! فأجابني بلهجة الواثق مما يفعل: “اسألهم هم كيف يتصرفون معي”!
ويشهد الجميع له بأنه كان مايسترو سياسيا في إدارة جلسات الجبهة.. وكل الناس تتذكر كيف تعامل بأخلاق عالية مع بوعلام باقي ومع يحياوي ومع مساعدية ومع غزالي ومع عبد السلام بلعيد.. وتعد مناقشاته مع هؤلاء نصوصا يجب أن تدرس في معهد العلوم السياسية.. لو كانت الجامعة جامعة.
وإن كنت أنسى فلا أنسى له موقفا رجوليا في مقبرة العالية.. حيث كنا ندفن المرحوم أبو بكر بلقايد عندما جاءه أحد الوشاة وقال له: إن اللواء خالد نزار قال: يا ليت الرصاصة التي جاءت في بلقايد كانت في عبد الحميد مهري.. سكت لحظة ثم قال: اللّه يهدي نزار.
رحيل مهري في هذا الظرف الحساس الذي تعيشه الجزائر وفي هذا الوقت الذي تحتاج الجزائر إلى رأيه في الكثير من القضايا الحساسة يعد فاجعة بكل المقاييس.
ومعذرة إن لم أوفق في الحديث عن رحيل آخر العمالقة لأنه رجل أكبر من أن تحيط به الكلمات والمعاني.. رجل عاش ثمانين حولا قضى ثلاثة أرباعها في النضال الوطني بنوعية وبسخاء لا مثيل له.
إننا لا نسأل اللّه رد قضائه ولكن نسأله فقط اللطف فيه وأن يلهم محبي سي عبد الحميد الصبر والسلوان في هذه الرزية.
“كل من عليها فان ويبقى وجه ربك ذو الجلال والإكرام”.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق